كتب ويليام دالريمبل أن وقف إطلاق النار أتاح لحظة نادرة لتأمل ما فقدته غزّة، المدينة التي تحوّلت إلى أطلال تشبه دريسدن بعد الحرب العالمية الثانية. الخسائر البشرية التي صنّفتها لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة إبادةً لا تُقاس، لكن ما ضاع من تراث إنساني وتاريخي لا يقل فداحة. يذكّر الكاتب بأن كثيرين يظنون أن غزّة ليست إلا مخيمًا للاجئين على أرض صحراوية، والحقيقة أنها من أقدم المراكز الحضرية على وجه الأرض.
ذكرت الجارديان أن فلسطين من أقدم الأسماء في الذاكرة البشرية، فقد ورد اسمها في النقوش المصرية منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد باسم "بلست"، وفي الكتابات الآشورية باسم "فلشتو"، ثم استخدمها المؤرخ الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد باسم "Παλαιστίνη". هذه الحقيقة، يقول دالريمبل، لمسها أثناء إعداد سلسلة إذاعية عن تاريخ غزّة، موضحًا أن المدينة كانت دوماً نقطة التقاء بين آسيا وأفريقيا، وميناءً مزدهرًا صدّر بخوره وخموره وعطورَه إلى روما وأثينا، ومحطةً نهائية لقوافل العرب القادمين من البتراء.
شهدت غزّة خصوبة استثنائية بفضل مياهها الجوفية ومناخها المتوسطي، واشتهرت بعنبها الذي صُنعت منه خمور اعتُبرت "شاتُو ديكيم" العالم القديم. المعرض المقام في معهد العالم العربي بباريس اليوم يعرض جرارها الفخارية المميزة التي نقلت النبيذ إلى إنجلترا وفرنسا في القرن السادس الميلادي.
توالت على المدينة إمبراطوريات لا تُحصى: المصريون، الآشوريون، البابليون، الفرس، الإغريق، الرومان، ثم الأمويون والمماليك والعثمانيون، وكلهم تنافسوا على السيطرة عليها. وبين سطور المعارك ظل أهلها الأصليون يعيشون هناك، يتحول إيمانهم عبر القرون من الوثنية إلى اليهودية ثم المسيحية والإسلام، وتبدلت لغاتهم من الآرامية إلى الإغريقية ثم إلى العربية. أظهرت التحاليل الجينية الحديثة أن سكان المنطقة اليوم، يهودًا وفلسطينيين، يتقاسمون التركيبة الوراثية نفسها تقريبًا التي عُثر عليها في هياكل العصر البرونزي.
عرفت غزّة أولى الأديرة الفلسطينية، إذ انتقل إليها رهبان أنطونيوس الكبير من مصر، فازدحمت الصحراء بالأديرة حتى قال المؤرخون "صارت الصحراء مدينة". وفي عام 406 موّلت الإمبراطورة إيدوكسيا بناء كاتدرائية للمدينة، ثم بُنيت كنيسة القديس سرجيوس أواخر القرن السادس. لكن الفتح العربي، كما يؤكد المؤرخون، لم يترك أثرًا عنيفًا في سجلّ الآثار، بل واصل سكان غزّة حياتهم وإدارتهم باللغة اليونانية لفترة طويلة قبل أن يتبنوا العربية والإسلام تدريجيًا.
واصلت المدينة ازدهارها في العصور اللاحقة؛ جعلها الصليبيون معقلًا لفرسان المعبد، ثم ملأها المماليك بالمساجد والخانات. وفي العهد العثماني تراجعت مكانتها التجارية أمام يافا وعكّا، لكنها بقيت مركزًا إداريًا مهمًا. وعند الحرب العالمية الأولى، تحصّن فيها الجيش العثماني ضد البريطانيين، قبل أن ينهار خطّه في معركة غزّة الثالثة عام 1917 بالتزامن مع صدور وعد بلفور الذي غيّر مستقبل فلسطين إلى الأبد. وبحلول 1948 أصبحت غزّة مأوى لعشرات آلاف الفلسطينيين المهجّرين في النكبة.
يقول دالريمبل، إن غزّة اليوم تتصدر نشرات الأخبار كرمز للمأساة، لكنها في الحقيقة تمثل فصلًا عميقًا من تاريخ الإنسانية، لم يُروَ بعد كما يجب. القليلون يعرفون قصتها لأن الكتب والأفلام نادرًا ما تناولتها، ولهذا يصف الكاتب الإصدارات الحديثة — مثل كتاب تاريخ قصير لقطاع غزّة للمؤرخة آن عرفان، ومؤرخ في غزّة لجان-بيار فيليو — بأنها مفاتيح لفهم حاضر المنطقة وفهم جذور ما يحدث فيها.
يختم الكاتب قائلاً إن غزّة التي عرفها الرحالة والأنبياء والمؤرخون على مدى خمسة آلاف عام لم تختفِ، بل اختُزنت في ذاكرة الأرض، تنتظر يومًا يعود فيه صوتها من تحت الركام.
https://www.theguardian.com/world/2025/oct/17/one-of-the-oldest-urban-centres-on-the-planet-gazas-rich-history-in-ruins